مقاربات لسبع تجارب نسائية رائدة في الغناء اليمني
تشابهت كثير من ظروف الإعاقة لمطربات يمنيات في المحاولات الأولى لهن في تقديم أنفسهن كأصوات غنائية، ولولا إصرارهن القوي على مواصلة السير في الطريق الشاق والوعر لما صمد ووصل إلينا إرثهن الطربي.
العيب والمحرَّم كانا المتلازمة العائقة لهن من قبل الأسرة والعائلة والمجتمع، الذين تنتمي إليهم هذه المطربات، لكنهن خضن غمار المواجهة الصلبة، في الشمال والجنوب، مع جدار العزلة والمحافظة والتحريم الذي أحاطهن. خضن هذه المواجهة إما عُزّل تمامًا، فدفعن ثمن ذلك تنكيلًا وقهرًا من الأسر والأهل، أو أنهن وجدن مساندة محدودة من الآباء، فتعرضوا بدورهم للمقاطعة من محيطهم العائلي، لكنهم وفروا الكثير من الحماية لبناتهم، لإيمانهم القوي بدور الفن في “أنسنة” الطبائع الخشنة في محيطهم المغلق.
هذه خلاصة قراءة في تجارب، وسِيَر أصوات غنائية نسوية يمنية خلال خمسين عامًا في شمال اليمن وجنوبه، احتواها كتاب الباحث يحيى قاسم سهل، الصادر مؤخرًا عن دار الصادق بصنعاء، وحمل ذات العنوان: “الأصوات الغنائية النسوية في اليمن 1950–2000″، الذي تكمن أهميته في طابعه التوثيقي؛ وإن صدوره في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ اليمن واليمنيين هو بمثابة الرد البليغ على تجريفات الهوية الثقافية والحضارية، التي يزاولها عصبويو المذهب والمنطقة والقرية.
القصص والحكايات التي روتها الفنانات في مقابلات صحافية، أو التي رواها عنهن باحثون وكتاب، جديرة بأن تدرس، كوجه من أوجه مقاومة النساء لحالة العزلة والتسلط التي فرضت عليهن في مجتمع محافظ، يحطُّ على الدوام من شأن المرأة، ويستنقص من مبادراتها في عملية التحول، لأنها، حسب التعليل الذكوري المسنود بقاعدةٍ ذات ترويج فقهي متعصب، “ناقصة عقل ودين”.
معاناة الفنانة “نبات أحمد” بدأت مع إصرارها على الغناء حين كانت ترافق أختها الفنانة “روضة أحمد”، وبالرغم من قناعتها بأن صوتها كان عاديًّا وغير جاذب، إلا أن الفنان “محمد العوامي” وقف إلى جانبها، ودعم تسجيل أغنية لها وأغنيتين لأختها، وتقول عن ذلك:
“كنت هاوية للغناء لدرجة لا تصدق مع أن صوتي ليس جميلًا، ولم أكن أفكر أني سوف أكون فنانة مشهورة. كان تفكيري منحصرًا في كيف أغني وبس، والبداية كانت مع الأخت روضة، التي كانت في تلك الفترة معروفة بصوتها الحلو الجميل، فقد كنت أرافقها إلى الحفلات وداخلي إصرار على الغناء، وفي إحدى الحفلات دخلت روضة تغني، فقلت للعوامي وآخرين أريد أن أسجل أسطوانة، فقالوا لي: “أنت لا تنفعين للفن، فصوتك غير لائق”، فقلت لازم أغني وإن كان صوتي غير حلو، أريد أن أغني بالصميل، ويومها وقف إلى جانبي الفنان محمد العوامي، الذي تبناني، وقدم لي الأغنية والكلمات والألحان، وبعدها سمحوا لي أن أغني أغنية والأخت روضة أغنيتين، وكان عمري اثنتي عشرة سنة”. [ص83].
وحين علم أبوهما وأفراد عائلتهما بأنهما صارتا مغنيتين، قام بحبسهما لثلاثة أيام في المنزل، وأمام إصرارهما على مواصلة السير في الطريق الذي اختارتاه، رضخ الأب، لكنه فقد شقيقه إلى الأبد بالمقاطعة.
في سن الخامسة عشرة تزوجت من الفنان “أحمد صالح الأبرشي”، الذي أراد احتكارها بكتابة الأغاني وتلحينها، وأثناء إقامتها معه في السعودية كان يغلق عليها باب الشقة، من شدة غيرته عليها، فلا تجد أمامها من تسلية سوى الدندنة على عوده، وحين كان يعود إلى الشقة ويراها ممسكة بالعود تعزف وتغني أغانيَ لفنانين معروفين، مثل الآنسي والسمة والسنيدار، بدأ بتعليمها العزف، وكان يقول لها إنه سيعلمها العزف المتقن، حتى لا يعزف لها أي شخص غيره، حتى بعد موته. حسب ما روته للصحافي صالح الحميدي، في حوار نشرته الجمهورية الثقافية في 1998.
بعد سنتين من وفاة زوجها الأبرشي بحادث سير، عادت إلى الغناء هذه المرة مع فرقة نسائية تسميهن “مجاوبات”؛ واحدة تعزف على الإيقاع والثانية على الدف، يجُبن المحافظات لإحياء حفلات الأعراس ويسجلن للإذاعة والتلفزيون، قبل أن تتزوج مرة أخرى في تهامة من ابن شيخ قبلي وتتوقف عن الغناء بطلب من زوجها، الذي سمح لها فقط في إحياء الحفلات النسائية، دون أن تظهر على الجمهور ولا في التليفزيون أو تسجل للإذاعة. لكنها بعد ثمانية عشر سنة من المنع تعود من جديد في محطة جديدة للتحدي، لكنها سترى نفسها غريبة في زحمة أصوات جديدة، وجمهور مختلف غير ذلك الذي كان يناديها، وهي تغني على المسرح بـ”سكّر نبات”، وهو نوع من أنواع السكر الصلب، الذي كان يُتناول بكثرة مع القات آنذاك.
وقف عبدالقادر باسودان، بكل صلابة إلى جانب خيار ابنته الشابة رجاء وموهبتها الفنية، في وجه العائلة في حضرموت وعدن، التي رأت في احتراف ابنتهم للغناء خروجًا فاضحًا على التقاليد الاجتماعية
الفنانة “رجاء باسودان” التي استطاعت بصوتها المتميز البديع إنهاء الخصومة بين جماهير عدن المنقسمة بين الفنان أحمد بن أحمد قاسم والفنان محمد مرشد ناجي في ستينيات القرن المنقضي، فصار جمهور المرشدي يذهب إلى مسرح البادري والملعب البلدي في كريتر لسماع الفنانة رجاء باسودان في حفلات يكون نجمها الفنان أحمد قاسم، وبالمقابل يذهب جمهور أحمد قاسم إلى حفلات تحييها رجاء مع المرشدي وفناني الشيخ عثمان في مسارح وسينمات المدينة. هذه الفنانة تعرضت في بداية مشوارها الفني، الذي بدأته ضمن فريق الثلاثي اللطيف الذي شكله الفنان أحمد قاسم مطلع الستينيات من ثلاث فتيات صغيرات؛ هي وصباح منصر وأم الخير عجمي، تعرضت لضغوط أسرية لترك الغناء، ولولا وقوف والدها معها لكان صوتها قد وئد في مهده، ولم يجترح كل ذلك الفرح ولم يزل. يقول عبدالقادر خضر أن والد الفنانة رجاء هو الشخصية المرحة والشجاعة والعنيدة عبدالقادر باسودان، الذي وقف بكل صلابة إلى جانب خيار ابنته الشابة وموهبتها الفنية في وجه العائلة في حضرموت وعدن، التي رأت في احتراف ابنتهم للغناء خروجًا فاضحًا على التقاليد الاجتماعية.
خمس سنوات فقط هي التجربة الفنية لـ”نبيهة عزيم”، لكنها كانت كافية لتسجل اسمها كأول فنانة في الجزيرة والخليج، تصعد إلى المسرح وتغني أمام الجمهور، وتجعل مدينة مثل عدن تسهر لسماع صوتها عبر الإذاعة. لكن ثمن ذلك كان مرتفعًا، فقد استتبع حضورها هذا انقسامٌ في مجتمع المدينة، ابتداء من نقد ظهورها سافرة الوجه في المجلس التشريعي في العام 1957، وانتهاء بغنائها على المسرح أمام الجمهور. في 1962 نشرت إحدى الصحف العدنية خبرًا صغيرًا أن الفنانة المحبوبة اعتزلت الفن بعد زواجها وانتقالها للعيش مع زوجها في مدينة جيبوتي.
بقيت الفنانة “منى علي” تترد على وزارة الثقافة لسنوات طويلة من أجل الحصول على درجة وظيفية تقيها شر العوز والحاجة، في تكرار لمعاناتها كفنانة في بداية ظهورها. ارتبط اسمها بأعراس اليمنيين في اليمن الأوسط منذ خمسين عامًا، وصار الحديث عن الغناء النسوي دون ذكرها تجاوز غير مقبول؛ تنتمي لمدينة إب القديمة، لكنها استقرت في مدينة تعز منذ بدأت مشوارها الفني؛ اسمها الحقيقي غانية، وامتهنت الفن رغم المعارضة الشديدة من عائلتها، وبسبب ذلك انقطعت علاقتها بأفراد الأسرة، وعن هذه المعضلة تقول:
“واجهتُ صعوبات بالغة وقوية جدًّا من قبل الأهل -الوالد والوالدة وعمي- الذين استنكروا هذا الحدث الجديد في حياتي. كنت أقول هذا فن، رفضوه ولم يتقبلوه مني، وضربوني بقوة، وإلى الآن لا يعرفون عني شيئًا، والسبب أني كنت مؤدية غناء. إصراري دفعني للتنازل عن أشياء كثيرة، ومنها أهلي وأقرب الناس إليَّ”. [الكتاب ص90].
“تقية الطويلية” هي الأخرى عانت الأمرين، وهي تؤسس لمجدها الشخصي كمطربة شعبية عرفها كثير من اليمنيين منذ منتصف الستينيات، وهي من أوائل الفنانات اليمنيات اللاتي تحدين التقاليد المجتمعية وسلكن درب الفن؛ غنت مع أشهر فناني اليمن وفي مقدمتهم علي عبدالله السمة ومحمد حمود الحارثي، وهما أول من لحن أعمالًا غنائية لها.
بدأت مسيرتها الفنية بشكل جلسات نسائية خاصة، إلا أن موروثها الفني المسجل وشهرتها على الساحة الفنية اليمنية كانت في سنوات السبعينيات. قرأت مرة في حائط أحد الأصدقاء قوله: في حوار إذاعي معها، شرحت فيه معاناتها في بداية مشوارها الفني، وقالت: “لحقني أخي إلى بيت الحارثي، حاول منعي من الغناء، أطلق الرصاص على بيت الحارثي، لكني صبرت وتحملت من أجل الفن، وفي مرة من المرات سممني أخي وبقيت أربع سنين مرقدة أتعالج في المستشفى”، ووصفت حماسها للفن قائلة: “ما خليت معسكر أنا وعلي الآنسي إلّا زرناه، شجعنا الجنود وغنينا لهم”.
ارتبط اسم وصوت الفنانة “كفى عراقي” المولودة في مدينة عدن في العام 1953، بأداء مجموعة من الأغاني المتداولة، ومنها الأغنية الفولكلورية “صبوحة خطبها نصيب” وأغنية الفنان محمد صالح عزاني “فين التقينا وشفتك فين”.
محاولة تقديم جانب التحدي في مسيرة بعض المطربات اليمنيات، التي عرضها كتاب “الأصوات الغنائية النسوية في اليمن”، أردنا منها تقريب صورة المقاومة بالفن من أجل الحياة، التي نحن في أمسّ الحاجة إليها في وقتنا الراهن
تقول عن تجربتها الفنية: “رغم مرارة المعارضة التي قوبلت بها من قبل أفراد الأسرة، الذين كانوا يحملون وجهة نظر متحفظة إزاء مشاركة المرأة في النشاطات الفنية والجماهيرية، غير أن قناعة والديّ وتشجيعهما لي كي أواصل طريقي الذي اخترته منذ الصغر، منحتني بركة الأمل في إمكانية الاستمرار في أداء رسالتي الفنية”. [الكتاب، ص163].
معاينة الخريطة الغنائية النسوية في منطقة حضرموت تشير إلى فنانتين لعبتا دورًا مهمًا في الترويج للتراث الشعبي الحضرمي بأصوات نسائية، وهاتان الفنانتان هما “فاطمة باهديلة وفاطمة منصور الشطري (الحبانية)”، غير أن معاناة الحبانية القوية في بداية حياتها الفنية تشجع على مقاربة سيرتها؛ التي تقول إنها فنانة شعبية عرفتها مدينة المكلا خلال السبعينيات، وقد عاركت الأمواج العاتية التي كانت تأتي على هيئة تجريم وتحريم، وتقول بهذا الصدد:
“كنت مهددة من قبل أهلي وأقاربي، وكنت أول فتاة في المكلا تنزع الخمار عن وجهها، وحينها قابلت من التهديد والشتم ما لا يحتمله بشر، ولكن تحملت كل هذا ومضيت في هذا الدرب؛ لأن الفن سرى في دمي ويستحيل أن أكبت هذا بداخلي دون أن أقدمه”، [ص 203].
محاولة تقديم جانب التحدي في مسيرة بعض المطربات اليمنيات، التي عرضها كتاب “الأصوات الغنائية النسوية في اليمن”، أردنا منها تقريب صورة المقاومة بالفن من أجل الحياة، التي نحن في أمسّ الحاجة إليها في وقتنا الراهن، ونحتاج أيضًا استعادة روح المدينة التي أتاحت لمثل هذه الأصوات أن تصل إلى الأسماع، بدون محاذير العيب والمحرم، ونقصد هنا روح مدينة عدن التي تتعرض هي الأخرى لتجريف فظيع لهويتها المدنية والثقافية.