البناء الحديث… يافع

د. علي صالح الخلاقي

0 301

 

يعكس البناء في يافع بهندسته مستوى راقٍٍ من فنون المعمار التي اشتهرت بها أسرٌ محددة من اليافعيين على رأسهم معلمو البناء الشهيرين من (آل بن صلاح) الذين يسكنون عدة قرى في هضبة يافع العليا، ممن لم يبلغوا هذه المكانة عشوائياً، أو بالصدفة، بل بتجارب متراكمة، عبر أزمنة متعاقبة، مكنتهم من الإحاطة بقوانين ومقاييس وابعاد وزوايا وفنون بناء هذا النمط من العمارة الحجرية الفريدة، حتى امتلكوا زمام هذه المهنة، واضحت حكراً عليهم، يتوارثون تقاليدها وأسرارها خلفاً عن سلف بإتقان وتفوق، وبحسابات ومقاسات فطرية جُبَلوا عليها وتناقلوها جيلا بعد جيل، وكأنهم تخرجوا من أرقى كليات الهندسة الحديثة المتخصصة في هذا المجال، فضلا عما تتراكم لديهم يومياً من خبرات فنية تضاف إلى رصيد تجاربهم وتقاليدهم الثرية الموروثة. وقد قامت على أيدي أجيال عديدة منهم الدور والقصور المترفعة ليس فقط في يافع، بل وامتدت مهاراتهم إلى المناطق المجاورة كالبيضاء وحالمين والشعيب وردفان والضالع وبلاد العواذل، وصولا إلى شبوة ومناطق أخرى.

وتشمُخ قصور سلاطين آل العواذل في قمة (زارة) القريبة من لودر التي شيدها معلمو البناء من آل بن صلاح عام 1920م وفقاً لمعايير البناء اليافعية وبالتعاون مع بعض البناة المحليين هناك. بل إننا نجد أثراً لأسلافهم من البنائين اليافعيين المهرة في تهامة، يتمثل في قبة معظمة متقنة مُحكَمة بُنيت على قبر الشيخ علي بن عمر الشاذلي الولي الشهير في مدينة المخا، بناها قوم من يافع، القبيلة المشهورة من قبائل حِمْيَر الأكبر سبأ الأكبر بن يشجب بن يعرب بن قحطان، يقال لهم آل سَلاَّم، وهم فخذ من كَلَد، قريتهم في يافع تسمى “بركات” غربي جبل “موفجة” وهم فيها إلى الآن منهم آل سلام العبادلة في لحج( ). وظلت لمعلمي البناء من آل بن صلاح سيطرة حصرية على تقنية وتعليم حرفة البناء منذ القِدَم وحتى عشية الاستقلال الوطني عام 1967 وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، حيث أخذت بعد ذلك أسرار هذه المهنـــــة وخفاياها تنتقل من آل بن صلاح، بصورة بطيئة ومحددة، إلى أسر أخرى في مناطق مختلفة من يافع ممن تتلمذوا على أيديهم، أمثال “آل الوردي” و”آل عماري” و”آل السرحي” (انظر مساكنهم في الصورة)..وغيرهم. ورغم أن أعداد هؤلاء البنائين المَهَرة، سواء من آل بن صلاح أو غيرهم، بدأت تقل عاماً بعد عام في الآونة الأخيرة، وأخذ البعض يغادرون هذه المهنة الرفيعة، التي ورثوها واتقنوها، إما إلى المهجر أو إلى أعمال أخرى لا صلة لها بهذه الحرفة، وهو ما يهدد مستقبل العمارة اليافعية ذات الطراز الأصيل . إلاَّ أن ما يثير الاطمئنان، ويبعث على الفخر أن الإنسان اليافعي ما زال مرتبطاً بهذا التراث المعماري الإنساني الفريد ومحافظاً عليه إلى اليوم.

 

فرغم دخول الأسمنت الذي أخذ يغزو عمارة يافع التقليدية ويلحق بها بعض التشوهات، إلاّ أن المباني والقصور الحديثة ما تزال تشيد وتنتصب شامخة تجمع بين الأصالة والحداثة، بل أن تحسن الأحوال المعيشية للكثير من أبناء يافع من التجار والمغتربين، جعلهم يتنافسون على إنشاء المباني الحديثة الضخمة بتكاليف باهظة ، بنفس الطراز المعماري المميز مع مراعات السعة الداخلية ومتطلبات الحياة العصرية، وفي مثل هذا الميدان فليتنافس المتنافسون. وتحظى حرفة البناء بتقدير عال، وينال العاملون فيها أجوراً مغرية مقارنة ببقية المهن، فضلا عما يحظون به من عناية خاصة في مأكلهم ومشربهم من قبل صاحب العمل. وهم يجمعون بين القدرة البدنية والمهارة الهندسية المكتسبة بالوراثة والتجربة، حيث يحولون قوالب الحجارة إلى بنيان مرصوص مذهل بتقاسيمه ومقاساته وأوزانه المتناهية الدقة. بل ويتنافسون في إضفاء لمساتهم الفنية التي تميز كل منهم عن غيره، وتجعل المتميزين منهم محل فخر وتقدير سواء بين أقرانهم أو في أوساط المجتمع، ويتجه الناس إليهم لبناء بيوتهم الجميلة. ويقوم البناة بنقل خبراتهم وتجاربهم إلى أبنائهم، إذ يتناقل الأبناء هذه الحرفة عن جيل الآباء، ويبدأون بتعلمها منذ طفولتهم، حيث تعهد إليهم في البدء بعض الأعمال المساعدة أو المكملة، كتعبئة الفراغات بين الحجارة بقطع صغيرة من الأحجار تسمى (مِيظَار) ثم تدريبهم تدريجيا ببعض أعمال البناء تحت إشراف البنائين المهرة وصولا إلى أعقد وأدق أعمال البناء المتمثل ببناء الأركان والعقود.

 

اترك تعليقا